يسمى عصر الثورة العامة على المعتقدات الدينية النصرانية عصر التنوير، وهو يشمل المرحلة ما بين اشتداد الحروب الدينية في أوروبا وبين ظهور الثورتين: الأمريكية والفرنسية، أي: أن القرن الثامن عشر الميلادي ــ على سبيل التقريب ــ هو عصر التنوير الذي أحدث في الفكر العالمي عامة والغربي خاصة زلزالًا لا تزال توابعه حتى الآن؛ فقد خلف آثارًا عظيمة في السياسة والاجتماع والأدب والفن. بيد أن أعظم آثاره تجلى في الصراع العنيف بين الكنيسة والعقل.
ولا ريب أن عصر التنوير يعد امتدادًا طبيعيًّا لعصر النهضة الأوروبية الذي يدين بالفضل للإسلام؛ فقد كان تأثير الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية واضحًا في إيطاليا منطلق النهضة الأوروبية الحديثة، بل هو أكبر أسباب النهضة؛ فقد كان الإمبراطور (فردريك) الثاني في القرن الثالث عشر عاشقًا للثقافة الإسلامية، ولما رأت الكنيسة حرصه على تعلم العربية، وكثرة المسلمين على بلاطه، وتأثره الواضح بهم، أصدرت بحقه حرمانًا وسمّته (الزنديق الأعظم)، ولكن المؤرخين في الفكر يسمونه (أول المحدثين) تقديرًا لريادته في الحضارة والإنسانيات.
وفي الأندلس كان التواصل الثقافي مستمرًّا، خاصة مع أوروبا الغربية، لاسيما الجزر البريطانية التي كادت أن تسلم، حيث يتحدث التاريخ عن إسلام أحد ملوكها، وكذلك إسلام ملك النرويج، وهما حدثان جديران بالبحث والاهتمام، فلما استطاعت الكاثوليكية استرداد البرتغال وإسبانيا من المسلمين، وأقامت محاكم التفتيش، لجأ كثير من أصحاب الفكر الحر إلى أوروبا الغربية، لاسيما هولندا التي ظهرت فيها العقيدة التوحيدية بوضوح إلى جانب العقائد الأخرى المتحررة من ربقة الكنيسة الرومانية.
وفي المرحلة التالية لم يقف الصراع الكبير الذي أحدثته الحركة الإصلاحية عند حدّ التمرد على البابا، بل انقلب تمردًا على كل العقائد الكنسية باسم (العقل) و(حرية التفكير) و(الدين المنطقي) و(الدين الطبيعي)، ونحو ذلك من الشعارات التي كثرت في ذلك العصر واختلفت، وكان الجامع بينها رفض العقيدة النصرانية .
ومن هنا اختلط الأمر على الباحثين، وصعب التفريق بين منكري الدين كلِّه ــ أي: من ينكر وجود الله تعالى ــ وبين من ينكر عقائد الكنائس النصرانية ــ لاسيما التثليث ــ لكنه يؤمن بالوحي والكتب المقدسة، وبين من يقف بين ذلك فينكر الكتب والقدر، ويعترف بنوع من الوحي والتعبد.
وفي غمرة هذا الاختلاط نجد تفسيرًا للتنازع الشديد في عقيدة بعض الأعلام المشهورين بالعلم والفكر والفلسفة مثل (جون لوك)، (إسحاق نيوتن)، (شارلز ديكنز)، (روسو)، (داروين)، فالكنيسة الموحدة تدعي أنهم من أتباعها، وغيرهم لا يسلِّم لها بذلك، بل يجعلونهم (ربوبيين) ، أو (لا أدريين) أو (طبيعيين) ... إلخ.
وكان لـبريطانيا نصيب الأسد في ظهور هذه العقائد، ويعزى ذلك إلى الحرية المحدودة فيها، وإلى طريقة التفكير البريطاني؛ حيث يمثل الإنجليز غالبًا ما سماه المفكر العالمي (علي عزت بيغوفيتش): (الطريق الثالث خارج الإسلام)، فقد رفضوا العقيدة الكاثوليكية، لكنهم لم يتطرفوا فيذهبوا مذهب الملاحدة العقلانيين في فرنسا، ولم يندفعوا مع اللوثرية اندفاع الألمان، بل سلكوا طريقًا وسطًا، تمامًا كما فعلت بريطانيا في العصر الحاضر، حيث لم تكن شيوعية مثل روسيا، ولكنها أيضا ليست في الرأسمالية مثل أمريكا .
هناك ــ في بريطانيا ــ فشت عقيدة التوحيد هذه، وكادت تسيطر على مفكري عصر التنوير الإنجليزي، لولا أن منافسًا ظهر أيضًا بقوة وهو دين الربوبيين (المؤمنين بالله مع إنكار الوحي)، وكثيرًا ما يقع الخلط بين هاتين العقيدتين، ويدعي أتباعهما أن رموز الأخرى هم من رموزها ــ كما سبق ــ.
والواقع أن بريطانيا في ذلك العصر كانت تموج بالشك والتمرد، بل التقلب والاضطراب لدى المفكر الواحد، وكان أبرز الأحداث هو إعلان الموحدين لعقيدتهم في التوحيد صراحة في بيانٍ وجهوه إلى طلاب جامعتي (أكسفورد) و(كامبردج) سنة (1790م).
على أن أهمية الكنيسة في بريطانيا تتجلى في كونها المصدر الأكبر للحركة في أمريكا، وهنا لابد من بيان الفرق بين أوروبا وأمريكا في هذا الشأن؛ فـأوروبا كانت هائجة مضطربة تنتقل من فعل إلى ردة فعل أعنف, وهذا يصدق على كثير من مفكريها مع شيء من الاعتدال يتسم به شمالها.
أما أمريكا فجذورها الدينية واضحة؛ بحيث يمكن القول: إن ملاحدة أمريكا أقرب إلى الانتماء الديني, وأن متديني أوروبا أقرب إلى الملاحدة.
وحين نصل إلى أمريكا نجد أنفسنا أمام تاريخ مستفيض, ووجود متميّز للحركة الموحدية.